Youssef Sawda Tribute Page
:يوسف السودا
أنا لبناني، وكفى
المحامي، الكاتب، الشاعر، الخطيب، المؤرّخ، السياسي، الثائر... قلّما تجتمع هذه الصفات في شخص واحد، وإن اجتمعت، قلّما تجد قضيّةً يكون التحدّي فيها بحجم هذه القدرات
متى وُجدَت، تأتي مدويّة، تهزّ بحر التاريخ، لا تخضع للظروف والصعاب – بل تصنع الأولى لتتخطّى الثانية، ناحتةً الأقدار وراسمةً المصائر
إنّه يوسف السودا
وُلد في أواخر عهد المتصرّفيّة، حين كان اللبنانيّون يحتفلون بالأعياد العثمانيّة، ويطلبون طول العمر للباب العالي، ويرفعون الأعلام التركيّة
أمّا يوسف السودا، كان في جامعته، كليّة القدّيس يوسف، يختلط بطلّاب أجانب، كلّ منهم، فرنسيّون وإنكليزيّون وأميركيّون، له علمه وعيده الوطني ونشيد بلاده
: كلّ فكرة تبدأ بسؤال
وقف يوسف السودا أمام إنتمائه وقفة حيرة
! فنحن لسنا فرنسيّين ولا عرباً ولا عثمانيين ولا أتراك
من نحن؟ سأل السودا، وهو غير مدركٍ لقدره، أنّه سيصنع من تاريخ لبنان حدوداً أوسع له من ثوب المتصرّفيّة، ويسترجع أرضاً لبنانيّة سلخها العثمانيّون عنه، ويؤسّس لقوميّة لبنانيّة تنتزع حقّها بين متسابقين على حقّ الشعوب في تقرير مصيرها
غاص يوسف السودا، مع سؤاله، في كلّ ما توفّرله من مخطوطات التاريخ، فوجد لبنان أينما ما وقعت عيناه
وجد لبنان في الكتاب المقدّس، أكثر من 70 مرّة، يُمجَّد حيناً بأرزه العظيم، ويتحدّى أحياناً حروب الآخرين
وجد لبنان في الـ
Corpus Hermeticum
حين كان الكاتب، تور الجبيلي المثلّث المجد، ملكاً عبقريّاً وحاكماً عادلاً وكاهناً تقيّاً في الألف الرابع قبل الميلاد
وجد لبنان في الإلياذة والأوديسّة، موطناً للعمالقة وأنصاف الآلهة ومربّي الإغريق ومصدرعلومهم
وجد لبنانيين يجلسون على عرش روما، ويعطون للإمبراطوريّة الرومانيّة عصرها الذّهبي
شاء الزّمان أن يُعرِّف يوسف السودا على حقيقة وطنه – هذه الحقيقة التي لم يستطع المحتلّون أن يمحوا معالمها، وصمدت بوجه سياسات التتريك والتعريب والرَّومنة والغَرقنة والهلْيَنة... فحملها برسائله إلى عواصم القرار بعد الحرب العالميّة الأولى، عندما فُتح المجال أمام الشعوب لتثبت هويّاتها القوميّة في مؤتمرات الصّلح، وتطالب بحقّها في حكم ذاتها. كما حملها في أشعاره
يا بَني لبنانَ هَيّا قدْ دنا يوم الفخارِ
اسمعوا الصوتَ الأبيّا واخلعوا ثوب الصَّغار
باد عهدٌ كان فيه يُحسبُ الناسُ عبيدْ
فاستعدّوا للمعالي ذاك عهدٌ لا يعود
أرزتي والمجدُ فيها من قديم الأعصر
ارفعوها وانشروها في سناها الأخضر
بنى يوسف السودا، القوميّة اللبنانيّة على تاريخ عظيم، ووجود دائم الإستمرار عبرالعصور، يطوي ألوف السنين على بعضها، ويطوي معها صفحاتٌ من الأمجاد والإنحطاطات، من العطاءات العلميّة والفنيّة والدينيّة، من ملاحم في الصمود وصدّ الغزاة والتحرّر... لكنّه لم يكتف بها أسطراً خطّها بقلمه
ما فائدة الفكرة إن لم يسع الإنسان لبلورتها وتجسيدها؟ لا سيّما عندما تكون القوميّة اللبنانيّة تصطدم مع مشاريع أخرى، تطمح إلى تذويب لبنان في محيط سوريّ أو عربيّ
فقام بتأسيس جمعيّة الإتحاد اللبناني، بالإشتراك مع بولس مسعد ورفاق حملوا راية القوميّة اللبنانيّة، وجاء في بيانها آنذاك
ولدت فكرة في بعض البيئات اللبنانية تهدف إلى ضمّ لبنان إلى سوريا لإدخاله مثلها في الإمبراطوريّة العثمانية. إزاء هذا، قررت مجموعة الوطنيين اللبنانيين محاربة الاتحاد المقترح بكل الوسائل التي تملكها
من كتاب يوسف السودا في سبيل الإستقلال
نجحت القوميّة اللبنانيّة، بإعلان دولة لبنان الكبير، وتكلّلت جهود يوسف السودا ورفاقه بتجسيد الأمّة اللبنانيّة بدولة مؤسّسة، لها مقوّمات الإستمراريّة الإقتصاديّة، وقام لبنان الكبير
ولكنّ مسيرة القوميّة اللبنانيّة لم تكن سهلة
إصطدمت بذلك العدوّ الذي ما زال ينهش لبنان حتّى اليوم: الطائفيّة
يقول سعيد عقل
الذين هم ألسنة الأمّة وقادتها في معركة البطولة، لا يسقطون في حقارة من يقولون: " كان ثمّة خيانتان تشدّان لبنان إلى خارج نفسه: واحدة إلى شرق وأخرى إلى غرب، فعالجناهما بميثاق يحدّ من حدّتهما" ماذاِ! حقّاً كان لبنان فارغاً من لبنان، أو إن عُثر في داخله على شيء، إنما عُثر على مغرَوْرب ومشرَورق؟ حقّاً لم يكن في لبنان من يقول: "أنا لبناني، وكفى" ؟
يوسف السودا كان هذا اللبناني، الذي يعلم أنّ اللبنانيّة لا تقبل أي نعت أو صفة أخرى، شرقيّة كانت أم غربيّة، وبغضّ النظر عن أيّ صبغة دينيّة أو طائفيّة كانت تطبع من يشدّ لبنان إلى هذه الجهة أو تلك
أمّا قوميّته اللبنانيّة، فكانت جامعة لجميع الأديان والطوائف دون استثناء أو تفضيل، مع قيم مثلى، سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في التأكيد على حريّة المعتقد والدين
قالوا: الطوائفُ والأديانُ ترهقُهُ قلتُ: المفاخرُ في تعدادِ أديانِ
ما مثلُ لبنانَ أرضًا فوقها انبسطتْ حرية الدين والدنيا لإنسان
شعبٌ سموحٌ إذا صلَّى يُرنِّحُ دقُّ النواقيس، أو تجويدُ قرآن
و رايةُ الأرْز لا تدري، إذا نُشرتْ في القوم أحمد، أو في القوم نصراني
هذا هو يوسف السودا، بين المهد واللّحد في بكفيّا، رحلة 82 سنة بين لبنان ومصر وإيطاليا والبرازيل، حُبلت بالهويّة اللبنانيّة، وأنجبت دولة لبنان الكبير، ولا يزال قلمه يصدح
لا خلاص للبنان إلّا بالقوميّة اللبنانيّة
بقلم شادي الزغبي
نُشرت في مجلّة "يلّا" اللبنانيّة
كندا / تمّوز 2013